اغتيال نصر الله والرد الإيراني- إعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة

شكّل اغتيال الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، في السابع والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول، زلزالًا مدويًا وهزة عنيفة لقدرة الردع التي تمثل حجر الزاوية في قوة المقاومة ورسوخها في الوجدان اللبناني. ومما لا يخفى على أحد، أن عملية الاغتيال الشنيعة جاءت في أعقاب سلسلة من الاعتداءات الغادرة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي ضد الحزب، بدءًا من استهداف أجهزة الاتصال الحيوية ووصولًا إلى اغتيال ثلة من القادة الميدانيين، مما أرسى منعطفًا حرجًا فتح الباب واسعًا أمام التساؤلات المقلقة حول الاختراقات والثغرات الأمنية التي يعاني منها حزب الله، وصولًا إلى التشكيك في قدرته على مجابهة إسرائيل وتحقيق الغايات المنشودة التي رسمها مع بداية انخراطه في المعركة الدائرة في الجبهة التي أطلق عليها اسم "جبهة المساندة لشعب غزة ومقاومتها".
إذًا، اتخذت إسرائيل قرارها المشؤوم بالتصعيد الشامل والمقامرة الخطيرة على شفير الهاوية في جبهة لبنان الملتهبة، والتي قد تنزلق إلى أتون حرب إقليمية طاحنة في أي لحظة، مستغلة الدعم الغربي اللامحدود الذي تتلقاه، لا سيما من الولايات المتحدة الأميركية، التي لا تكتفي بمساندة الاحتلال في عدوانه الغاشم على غزة ولبنان، بل هي أيضًا شريك فعلي في التمويل والتسليح والمشاركة والإشراف على وضع الخطط العسكرية في اجتماعات دورية تعقدها مع ضباط جيش الاحتلال، سواء في تل أبيب، أو في الجبهة الشمالية المتاخمة للحدود مع لبنان.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsفاطمة تحارب الجوع في غزة لتنقذ جنينها
أم غزية تجد ابنها بين الجثث المجهولة وتحمد الله أنه كامل
وانطلاقًا من هذا المنطلق، فإنه وحتى لحظة كتابة هذه السطور، ما تزال الولايات المتحدة تنهج سياسة المراوغة والتملص من المسؤولية من خلال تنصلها المتكرر من الاعتداءات الإسرائيلية على العاصمة اللبنانية بيروت، وتحديدًا فيما يتعلق باغتيال الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، ومن خلال دعواتها المتواصلة إلى ما تسمّيه "تخفيض العنف في لبنان ووقف إطلاق النار"، وهو السيناريو ذاته الذي دأبت على اتباعه في الحرب على غزة طيلة عام كامل وحتى هذه اللحظة الراهنة.
وفي خضم هذا المشهد، تبرز إيران كلاعب محوري. فمنذ الفاجعة الأليمة بوفاة الرئيس الإيراني السابق، إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته، حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية غامض، وانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية الإسلامية، يمكن للمراقب الفطن أن يلحظ التبدل الواضح في التصريحات الإعلامية الرسمية التي افتتح بها الرئيس المنتخب، مسعود بزشكيان، ولايته حول سياسة إيران في التعاطي مع مجريات الحرب على غزة بشكل عام ولبنان على وجه الخصوص، وصولًا إلى اغتيال نصر الله.
فقد تزامن التغيير في القيادة في إيران مع تحول ملحوظ في النبرة الإيرانية، بحيث انتقل الخطاب الإيراني، إذا جاز التعبير، من التهديد الصريح بمحو إسرائيل من الخريطة إلى إطلاق رسائل دعم لفظي للمقاومة في لبنان وفلسطين دون أي تدخل مباشر منها على أرض الواقع، مع إعلانها المتكرر أنها لا ترغب في توسيع رقعة الحرب في المنطقة. وتزامن ذلك مع توجيه رسائل مبطنة إلى الولايات المتحدة الأميركية، إذ عبّر الرئيس الإيراني الحالي في أكثر من مناسبة عن "الرغبة في بناء علاقات ودية وتنسيق وثيق مع الإدارة الأميركية".
كل ذلك كان يومئ بتغيرات محتملة في السياسة والدبلوماسية الإيرانية، وهو ما استغله خصومها للهجوم عليها ومحاولة زرع الفتنة بينها وبين حركات المقاومة، وهي التي لطالما اعتُبرت الحاضنة الأساسية لها، مما أثار حفيظة شريحة واسعة من جمهور محور المقاومة، وطرحت علامات استفهام مشوبة بالحذر حول سياستها المستجدة إعلاميًا.
وجدت إيران نفسها ملزمة بإعادة تصويب خطابها الإعلاميّ للحدّ من حالة الغضب التي ظهرت في الشارع العربي بعد الاغتيال
وكما شكلت عملية اغتيال نصر الله ضربة قاصمة للمقاومة في لبنان وأثارت الشكوك حول دور هذه المقاومة ومستقبلها في حال عجزت عن استعادة قوة الردع، فإنها أيضًا وضعت إيران في موقف حرج للغاية، بدءًا من دورها وموقعها في ميزان القوى الراهن في المنطقة، وصولًا إلى التشكيك في مصداقيتها. وقد عززت التصريحات التي واكبت وتلت عملية اغتيال نصر الله هذا التشكيك، إذ وُجهت إليها اتهامات صريحة بالفشل في حماية أهم وأقوى حليف لها في المنطقة، وهو ما يُعد الضربة الثانية ضدها بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في عقر دارها.
وانطلاقًا من هذا المنطلق، وجدت إيران نفسها مضطرة لإعادة تقويم خطابها الإعلامي بهدف احتواء حالة الغضب التي تفجرت في الشارع العربي بشكل عام، وعند حلفائها على وجه الخصوص، عقب عملية الاغتيال.
وهنا، لا بد من التذكير بالدور المحوري الذي اضطلع به نصر الله على مدى عقود في محاولة تجميل صورة إيران في المنطقة وترسيخ حضورها كحليف للشعوب العربية، انطلاقًا من التركيز في كل خطاباته على دورها الرائد في دعم المقاومة، سواء في لبنان أو في فلسطين ضد إسرائيل، في وقت كانت فيه معظم دول المنطقة تهرول بخطوات متسارعة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
إذًا، شكل العداء مع إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي نقطة الارتكاز أو العنوان العريض الذي استندت إليه إيران لعقود من الزمن للعب دور فاعل في المنطقة العربية، مستفيدة من الضعف العربي في هذه القضية المحورية ومن الخلافات السياسية العميقة بين الدول العربية.
في الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول، فاجأت إيران العالم برد عسكري مباغت ضد إسرائيل، وذلك على الرغم من التسريبات الأميركية التي تحدثت عن نية الجمهورية الإسلامية توجيه ضربة عسكرية سبقت ساعة الصفر بساعات قليلة. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الرد العسكري والدخول بشكل أولي على خط المواجهة هو ضرورة حتمية تفرضها المصلحة الإيرانية بالدرجة الأولى، وذلك على مستويات عدة في الشكل والدور والصورة في المنطقة، سواء عند الحلفاء أو الخصوم، وصولًا إلى الأمن القومي الإيراني.
فقد تمكنت إسرائيل خلال الحرب من استغلال سياسة ما يُعرف "بالصبر الإستراتيجي" التي انتهجتها كل من المقاومة في لبنان والقيادة الإيرانية، واتباع سياسة الاستنزاف القائمة على تسجيل النقاط لعوامل عدة، أهمها محاولة تجنب اندلاع حرب إقليمية شاملة، وهي الحرب التي يطمح إليها نتنياهو. ووجه الأخير ضربته الأولى الموجعة إلى محور المقاومة عبر تفجير أجهزة الاتصال الحيوية، ثم تبعها بسلسلة اغتيالات لقادة في حزب الله، وصولًا إلى توجيه الضربة الكبرى والأخطر باغتيال الأمين العام.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل هذه الخطوات المتسارعة عن المشروع الإسرائيلي الكبير، الذي يهدف إلى تطويق إيران وضربها عسكريًا بشكل مباشر من جهة، وتغيير الواقع الجغرافي والسياسي في المنطقة العربية، من فلسطين إلى لبنان وعدد من الدول العربية، من جهة ثانية.
وقد تزامن رفع نتنياهو من مستوى تحديه المباشر لإيران مع تصريحات حول نجاح إسرائيل في اختراق ليس فقط المنظومة الأمنية لحزب الله، بل أيضًا لإيران نفسها، وترافق مع أنباء حول نقل المرشد الإيراني شخصيًا إلى مكان آمن؛ خشية تعرضه لعملية اغتيال، في إشارة واضحة إلى الضعف الذي يعتري المنظومة الأمنية الإيرانية وإلى التفوق الإسرائيلي المطلق.
لذا، كان لزامًا على إيران، التي اعترف رئيس جمهوريتها بوقوعها في فخ الخديعة الأميركية بالتهدئة، أن ترد بعمل عسكري أقوى وأكثر فاعلية من الرد الأول الاستعراضي، للحفاظ على قوة الردع الخاصة بها، وبالتالي لحماية أمنها القومي. وعقب ذلك، أعلنت إيران عن استعدادها لضرب إسرائيل بقوة أكبر، ومهاجمة مصالح كل من يشارك الاحتلال في ضربها في حال تم الرد عليها.
أما على المستوى الشعبي، فقد نجحت إيران إلى حد كبير في المسارعة ليس فقط إلى امتصاص غضب الشارع العربي، وخاصة الجمهور المؤيد لما يُعرف بمحور المقاومة، بل أيضًا استطاعت بشكل لافت الحد من الاصطفاف الإقليمي الشعبي ضدها. فالشارع العربي برمته، بعد الرد الإيراني، عبر عن تأييده لهذه الضربات، وخاصة من هم ضد إيران مذهبيًا وسياسيًا، وبتنا نقرأ بشكل متزايد عن دعوات للوحدة السنية الشيعية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي نصرة لغزة ولبنان.
هذا المشهد لا يمكن تجاوزه لرمزيته وتبعاته الخطيرة على المنطقة العربية، بل يطرح النقاش مرة أخرى حول فاعلية ودور الدول العربية في الصراع الدائر ضد إسرائيل. فحتى هذه اللحظة، لا يمكن الحديث عن موقف فاعل ومؤثر للدول العربية، مما يشكل فشلًا ذريعًا إضافيًا للحضور العربي في القضايا المصيرية للأمة، وخاصة القضية الفلسطينية التي حركت معظم شعوب العالم للمطالبة بوقف الحرب وإنهاء الاحتلال في فلسطين.
لسنوات طويلة، تشكلت ماكينة إعلامية ضخمة في العالم، وخاصة في المنطقة العربية، عملت بجد على شيطنة حركات المقاومة وتشويه صورتها واتهامها بالارتهان لإيران، وبالتالي على زيادة الانقسام السني الشيعي في المنطقة، من خلال اتهام إيران بأنها تستغل القضايا العربية لخدمة مصالحها الخاصة. وبالطبع، لا يمكن إنكار حقيقة أن إيران، كقوة إقليمية صاعدة، تعمل جاهدة على تحقيق مصالحها القومية، مستفيدة من التفكك والضعف العربيين، ولا سيما في القضية الفلسطينية، ومستفيدة من قوة حركات المقاومة المتصاعدة التي تدعمها بسخاء بالتمويل والتسليح لتثبيت وتكريس دورها كلاعب أساسي في المنطقة.
وبعد عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت شعوب المنطقة، بكل أطيافها وانقساماتها، متعطشة لتوجيه ضربة موجعة للاحتلال الإسرائيلي الغاشم تعيد بعضًا من معنوياتها وكرامتها وتنتقم لغزة والضفة الغربية ولبنان، في ظل ضعف عربي غير مسبوق في مواجهة الإجرام الإسرائيلي المستشري بحق الشعب الفلسطيني، واستكبار وصل إلى حد تهديد كل من لا يروق لإسرائيل في العالم بالاعتداء عليه دون رادع، والتهديد بإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط.
وكما كان متوقعًا، لعب الإجرام الإسرائيلي المتصاعد دورًا كبيرًا ومحوريًا في إفشال المحاولات البائسة للدول التي سارعت إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني لتسويق شرعيته ودمجه في المنطقة، على الرغم من كل الضخ الإعلامي الهائل والسياسات الممنهجة التي تم وضعها لإسقاط القضية الفلسطينية من الوعي العربي، أو على الأقل لإعادة تشكيله على مقاس التوجه التطبيعي.
وتعمل الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، على إعادة رسم خارطة الطريق لاستراتيجيتها في المنطقة من خلال استخدام أداتها الطيعة، إسرائيل، التي لم يشكل جنون العظمة المتأصل لدى رئيس وزرائها الشاذ أي تهديد مباشر لمصالحها حتى الآن.
وبالمثل، تسعى إيران جاهدة لإحداث خرق، ولو جزئيًا ومرحليًا، في الشارع العربي. ومن المؤكد أنها سوف تستقطب المزيد من التعاطف في حال تعرضت لعدوان إسرائيلي سافر يدفعها إلى الرد بشكل أقوى داخل فلسطين المحتلة، وفي الوقت ذاته، فهي تتفاوض بجدية لضمان استقرارها الإقليمي من خلال استعراض القوة وفتح قنوات دبلوماسية مع الغرب، وخاصة الإدارة الأميركية.
وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة، ما بين اغتيال نصر الله والرد الإيراني، يعيد الغرب رسم ملامح المنطقة بما يخدم مصالحه الاستراتيجية العليا، بينما تكسب إيران جولة، وإن كانت مؤقتة، في انتظار الرد الإسرائيلي، فتحاول جاهدة إعادة صياغة سياستها الإقليمية بما يتلاءم مع مصالحها ودورها المحوري في المنطقة، ليبقى السؤال الأوحد والمستمر يتردد صداه: أين هي الدول العربية؟ وما هو الدور المنوط بها في كل ما يحدث؟